سورة الأحزاب - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


يقول الحق جل جلاله: {لقد كان لكم في رسول الله}؛ محمد صلى الله عليه وسلم {أسوَةٌ حَسَنَة}؛ خَصْلَةٌ حسنة، من حقها أن يُؤتسى بها؛ كالثبات في الحرب، ومقاساة الشدائد، ومباشرة القتال. أو: في نفسه قدوة يحسن التأسي به. كما تقول: في البيضة عشرون رطلاً من حديد، أي: هي في نفسها عشرون. وفيه لغتان: الضم والكسر، كالعِدوة والعُدوة، والرِشوة والرُشوة. وهي {لمَن كان يرجو اللهَ واليوم الآخر} أي: يخاف الله ويخاف اليوم الآخر، أو: لأجل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. و {لمن}: قيل: بدل من ضمير لكم، وفيه ضعف؛ إذ لا يبدل من ضمير المخاطب إلا ما يدل على الإحاطة. وقيل: يتعلق بحسنة، أي: أسوة حسنة كائنة لمَن آمن، {وذكر الله كثيراً} أي: في الخوف والرجاء، والشدة والرخاء، فإن المؤتسِي بالرسول يكون كذلك.
{ولمَّا رأى المؤمنون الأحزابَ} قد أقبلوا عليهم؛ ليستأصلوهم، وقد وعدهم الله أن يسلط عليهم المحن، ويُزَلْزَلُوا حتى يستغيثوا ويستنصروا بقوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم..} [البقرة: 214] إلى قوله: {نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، فلما جاء الأحزاب واضطربوا؛ {قالوا هذا ما وعدنا اللهُ ورسولهُ وصدق اللهُ ورسولهُ}، وعَلِمُوا أن الجنة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «إنَّ الأحزاب سائِرون إليكم، في آخر تِسْع ليال، أو عشر»، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد، قالوا ذلك. و{هذا}: إشارة إلى الخطب والبلاء، أي: هذا الخطب الذي وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، {وما زادهم}، ما رأوا من اجتماع الأحزاب ومجيئهم، {إلا إيماناً} بالله وبمواعيده {وتسليماً} لقضائه وأقداره.
{من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا اللهَ عليه} أي: صدقوا فيما عاهدوه، فحذف الجار، وأوصل المفعول إلى {ما}؛ وذلك أن رجالاً من الصحابة نَذَرُوا أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا، وقاتلوا حتى يُسْتَشْهَدُوا، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة، وسعيد بن زيد، وحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر، وغيرهم. {فمنهم مَن قضى نَحْبهُ}؛ نذره؛ بأن قاتل حتى استشهد؛ كحمزة، ومصعب، وأنس بن النضر. والنَّحْبُ: النذر، واستعير للموت؛ لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت، فكأنه نذرٌ لازم في رقبته، فإذا مات؛ فقد قضى نحبه، أي: نذره. وقال في الصحاح: النحب: النذر، ثم قال: والنَّحْبَ: المدة والوقت. يقال: قضى فلان نَحْبَه، إذا مات. اهـ. فهو لفظ مشترك بين النذر والموت. وصحح ابنُ عطية أن النحب الذي في الآية ليس من شرطه الموت. بل معناه: قَضَى نذره الذي عاهد الله عليه من نصرة الدين، سواء قُتل أو بقي حيًّا.
بدليل قوله- عليه الصلاة والسلام- في طلحة: «هذا ممن قَضَى نَحْبَه». اهـ.
{ومنهم مَن ينتظرُ} أي: الموت على الشهادة؛ كعثمان وطلحة، {وما بدّلوا}؛ العهد {تبديلا}؛ ولا غيَّروه، لا المسْتَشْهَد، ولا مَن ينتظر الشهادة. وفيه تعريض بمَن بدّل من أهل النفاق، كقوله تعالى فيما مر: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ...} [الأحزاب: 15]. {ليجزي اللهُ الصادقين بصدقهم}؛ بوفائهم بالعهد، {ويُعذِّب المنافقين إن شاء} إذا لم يتوبوا، {أو يتوبَ عليهم} إن تابوا {إن الله كان غفوراً} بقبول التوبة، {رحيماً} بعفو الحوبة.
الإشارة: قد تقدّم ما يتعلق بالاقتداء بالرسول- عليه الصلاة والسلام- والاهتداء بهديه، وأنه منهاج الأكابر. وقوله تعالى: {ولَمَّا رأى المؤمنون الأحزاب...} الآية. كذلك الأقوياء من هذه الطائفة، إذا رأوا ما يهولهم ويروعهم زادهم ذلك إيماناً وتسليماً، ويقيناً وطمأنينة، وتحققوا بصحة الطريق؛ إذ هو منهاج السائرين والأولياء الصادقين، وسنة الأنبياء والمرسَلين. قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] الآية. وتقدم في إشارتها ما يتعلق بهذا المعنى.
قال بعضهم: نحن كالنجوم، كلما اشتدت الظلمة قَوِيَ نُورُنَا. وقال القشيري: كما أن المنافقين اضطربت عقائدهمُ عند رؤية الأعداء، فالمؤمنون وأهل اليقين زادوا ثِقَةٌ، وعلى الأعداء جرأةً، ولحكم الله استسلاماً. وفي الله قوة. ثم قال: قوله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا...} الآية، شَكَرَ صنيعَهم في المِرَاسَ، ومدح يقينهم عند شهود الناس، وسمّاهم رجالاً؛ إثباتاً لهم بالخصوصية في الرتبة، وتمييزاً لهم من بين أشكالهم بعلوِّ الحال، فمنهم مَنْ خرج من دنياه على صِدْقه، ومنهم مَنْ ينتظر حكم الله في الحياة والممات، وحقيقة الصدق: حفْظُ العهد وترك مجاوزة الحدَّ. ويقال: استواءُ السِّرِّ والجهر. ويقال: هو الثبات عندما يكون الأمر جدًّا.
قوله تعالى: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم..} في الدنيا بالتمكين، والنصرة على العدو، وإعلاء الرتبة، وفي الآخرة بجزيل الثواب، وجميل المآب، والخلودِ في النعيم المقيم، والتقدم على الأشكال بالتكريم والتعظيم. وقوله: {ويُعذب المنافقين إن شاء} يقال: إذا لم يجَزم بعقوبة المنافق، وتعلَّق القول فيه على الرجاء، فبالحريّ ألا يُخيِّبَ المؤمنَ في رجائه. انتهى كلام القشيري.


يقول الحق جلّ جلاله: {وَرَدَّ اللهُ الذين كفروا} أي: الأحزاب {بغَيْظِهم}؛ ملتبسين بغيظهم، فهو حال كقوله: {تَنبُتُ بِالدُّهنِ} [المؤمنون: 20] أي: ردهم غائظين {لم ينالوا خيراً}؛ ظفراً، أي: لم يظفروا بالمسلمين. وسمّاه {خيراً} بزعمهم، وهو أيضاً حال، أي: غير ظافرين، {وكفى اللهُ المؤمنين القتال} بالريح، والملائكة، {وكان اللهُ قوياً عزيزاً}؛ قادراً غالباً، فقهرهم بقدرته وغلبهم بقهريته. {وأنزل الذين ظاهروهم}: عاونوا الأحزاب وجاؤوا بهم {من أهلِ الكتاب}، يعني بني قريظة، أنزلهم {من صَياصِيهم}؛ من حصونهم. والصيصة: ما يتحصّن به. قال الهروي: وكل ما يتحصّن به فهو صيصة، ويقال لقرون البقر والظبي: صَيَاصي؛ لأنها تتحصن بها، وفي وصف أصحاب الدجال: شواربهم كالصياصي، لطولها، وفتلها، فصارت كالقرون. اهـ.
رُوي أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب، ورجع المسلمون إلى المدينة- على فَرَسه الحيزوم، والغُبار على وجه الفَرَس والسَّرْج، فقال: ما هذا جبريلُ؟ فقال: من مُتَابعةِ قُريش. ثم قال: إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة، وأنا عائدٌ إليهم، فإن الله داقهُمْ دَقَّ البيض على الصَّفا، وهم لكم طُعْمةٌ.
وفي رواية: لَمَّا رجع- عليه الصلاة والسلام- ودخل مغتسله، جاءه جبريل بعمامة من استبرق، على بغلة، عليها قطيفة من ديباج، فقال: قد وضعتَ السِّلاح، والله ما وضعت الملائكةُ السلاحَ، وما رجعت إلا من طلب القوم، وإن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة. فأذّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس: أنَّ من كان سَامِعاً مُطيعاً فلا يُصلَّين العَصْرَ إلا في بني قُريظة. فخرج إليهم، فحاصرهُم خمساً وعشرين ليلةٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلُون على حُكْمي؟ فأبَوْا، فقال: تنزلون على حكم سَعد بن مُعاذِ؟ فرضوا به. فقال سعد: نحكم فيهمْ: أن تُقتل مقاتِلتَهُم، وتُسبى ذَرارِيهمْ ونساؤُهُم. فكبَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: «لقد حكم فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة».
ثم استنْزلهم، وخَنْدَق في سوق المدينة خندقاً، وقدَّمَهُم، فضرب أعناقَهُم. وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل: كانوا ستمائة مقاتل، وسبعمائة أسير، فقتل المقاتلة، وقسم الأسارى، وهم الذراري والنساء. وكان عليّ والزبير رضي الله عنهما يضربان أعناق بني قريظة. والنبي صلى الله عليه وسلم جالس هناك. والقصة مطولة في كتب السير.
{وقذَفَ في قلوبهم الرعبَ} الخوف. وفيه السكون والضم، {فريقاً تقتلون} وهم الرجال {وتأسرون فريقاً} وهم النساء والذراري. قالت عائشة رضي الله عنها: لم يقتل صلى الله عليه وسلم من نساء بني قريظة امرأة إلا واحدة، قتلها بخلاد بن سويد، كانت شدخت رأسه بِحجَر من فوق الحصن.
{وأورثكم أرضَهم وديارَهم وأموالهم} كالمواشي والنقود والأمتعة. رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، وقال لهم: «إنكم في منازلكم» {و} أورثكم {أرضاً لم تطؤوها} بعدُ، قيل: خيبر، ولم يكونوا نالوها، أو: مكة، أو: فارس والروم، أو: كل أرض لم تُفتح إلى يوم القيامة، فمكّنهم الله من ذلك كله، وفتح عليهم مشارق الأرض ومغاربها. {وكان الله على كل شيءٍ قديراً} فيقدر على جميع ذلك.
الإشارة: هذه عادة الله مع خواصه، أن يُخوفهم ثم يُؤمنهم، ويذلهم ثم يعزهم، ويفقرهم ثم يغنيهم، ويجعل دائرة السوء على مَن ناوأهم، ويكفيهم أمرهم من غير محاربة ولا قتال، {وكفى الله المؤمنين القتال...} الآية. ثم يكون لهم التصرف في الوجود بأسره، أمرهم بأمر الله، وحكمهم بحكمه، والله غالب على أمره.
ولَمَّا نصر الله رسولَه، وفرّق الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظنّ أزواجه أنه اختص بنفائس أموال اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله؛ بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقه والضيق، وآلمن قلبه- عليه الصلاة والسلام- لمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهن به بما يعامل به الملوكُ والأكابرُ أزواجَهم.


يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبي قلْ لأزواجك} وكن تسعاً؛ خمساً من قريش: عائشة بنت الصدّيق، وحفصة بنت الفاروق، وأم حبيبة بنت سفيان، وسَوْدة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أُمية، وصفية بنت حيي الخيبرية، من بني إسرائيل، من ذرية هارون عليه السلام، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة. أي: فقل لهن {إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها} أي: التوسعة في الدنيا وكثرة الأموال والحُلل، {فتعالين} أي: أَقبلن بإرادتكن واختياركن. وأصل تعال أن يقوله مَن في المكان المرتفع لمَن في المكان الأدنى، ثم كثر استعماله في كل أمر مطلوب. {أُمتِّعكُنّ} أي: أُعطِكُن متعة الطلاق. وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوّضة قبل الوطء مع أخواتها، كما في كتب الفقه. {وأسرِّحكُنَّ} أُطلقكن {سَراحاً جميلاً} لا ضرر فيه.
وقيل: سبب نزولها: أنهن سألنه زيادة النفقة، وقيل: آذينه بغيرة بعضهن من بعض، فاغتمّ عليه الصلاة والسلام لذلك. وقيل: هجرهن شهراً، فنزلت، وهي آية التخيير. فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه، فخيّرها، وقرأ عليها القرآن، فاختارت اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة، فرؤي الفرحُ في وجهه صلى الله عليه وسلم، ثم اختارت جميعهُنّ اختيارها. وروي أنه قال لعائشة: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْراً، ولاَ عَلَيكِ ألا تَعْجَلِي فيه حَتَّى تَسْتَأْمرِي أَبَوَيْكِ» ثُمَّ قرأ عليها الآية، فقالت: أَفي هذا أسْتَأُمِرُ أَبَويّ؟ فَإِني أُريدُ الله ورسوَلهُ والدَّارَ الآخِرَةَ.
وحكم التخيير في الطلاق: أنه إذا قال لها: اختاري، فقالت: اخترتُ نفسي، أن تقع تطليقة واحدة بائنة، وإذا اختارت زوجها؛ لم يقع شيء. قاله النسفي. وقال ابن جزي: وإذا اختارت المرأة الطلاق؛ فمذهب مالك: أنه ثلاث، وقيل: طلقة بائنة. وقيل: رجعية. ووصف السراح بالجميل؛ يحتمل أن يريد أنه دون الثلاث، أو: يريد الثلاث، وجماله: حسن المرعى، والثناء، وحفظ العهد. اهـ.
{وإن كنتنّ تُردنَ اللهَ ورسوله والدارَ الآخرةَ فإِن الله أعدَّ للمحسنات منكنَّ} من: للبيان، {أجراً عظيماً} فاخترن رضي الله عنهن ما هو مناسب لحاله عليه الصلاة والسلام حين خُيّر بَيْن أن يكون نبيّاً عبداً، أو نبيًّا مَلِكاً، فاختار أن يكون نبيًّا عبداً، لا مَلِكاً. فاخترن العبودية، التي اختارها عليه الصلاة والسلام.
الإشارة: ينبغي لمَن قلّده الله نساء متعددة أن يخيِّرهن، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يخلو من حال الغيرة، فإذا خَيّرهن فينبغي أن يغيب عن تشغيبهن، ولم يصغ بأُذُنه إلى حديثهن، ولا ينبغي أن يغتم من أجل الغيرة، فإنها طبع لازم للبشر، وليُقدِّر في نفسه: أنه إذا تزوجت زوجته غيره، وهي في عصمته، هل يقْدِر على ذلك أم لا، فالأمر واحد. والله أعلم.
قال القشيري: لم يُرِد أن يكون قلبُ واحد من المؤمنين والمؤمنات منه في شُغل، أو يعود إلى واحد منهم أذى، أو تعب من الدنيا، فَخيَّرَ صلى الله عليه وسلم بأمر ربه نساءَه، ووفق اللهُ عائشةَ، حتى أخبرتُ عن صدق قلبها، وكمال دينها ويقينها، وما هو المنتظر من أصلها ونيتها. والباقيات جرَيْن على منهاجها، ونَسَجْنَ على منوالها. اهـ.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8